اعتقد العاملين في العلوم الروحية و المذاهب الصوفية المختلفة ، بالإضافة على الفلسفات الشرقية ، بوجود ذاكرة كونية تحتوي على جميع المعلومات المتعلقة بالأحداث و الأفعال و الأفكار و المشاعر و غيرها من انطباعات بشرية مختلفة حصلت منذ بداية الوجود . قالوا أن جميع هذه المعلومات المتنوعة محفوظة في حقل معلوماتي عملاق ، ضوء خفي يوصفه بعض الروحانيين بأنه نوع من الأثير ، مادته مجهولة ، يكمن ما وراء حواس الإنسان .
و ادعى هؤلاء بأن عملية التواصل معه قد اقتصرت على الوسطاء الروحيين ذات المواهب الفكرية المميزة . ( مثل المستبصرين و العرافين ، و غيرهم من وسطاء ) .
و يزعم بعض الفلاسفة و المفكرين ( القدماء و العصريين ) ، أن هذا الكيان المعلوماتي الخفي هو المصدر الذي تنبثق منه " قوة الإرادة " التي تحث الإنسان على توجهات محددة في أفعاله و أفكاره و مشاعره و خياله و غيرها من انطباعات أخرى في جوهره .
و يعتبر هذا الكيان عند البعض مخزون عملاق للقوى السحرية ، و أنه بحر عظيم من الوعي ، يتصل بجميع العقول و يتواصل معها . و هذا ما جعل ظاهرة الإدراك الخارق و معرفة الغيب و غيرها من إنجازات عقلية ممكنة .
تشير بعض التعاليم و الفلسفات الروحية الشرقية ( خاصة الهندوسية ) إلى هذا الكيان باسم " أكاشا " . و تقول أنه يشكل عنصر أساسي من عناصر الوجود . و أدخلوه إلى مجموعة العناصر التي تتألف منها الطبيعة : ( النار ، الهواء ، الماء ، التراب ، و أكاشا ) .
يتألف أكاشا ، بمفهومهم الفلسفي ، من مادة أثيرية خاصة يمكنها حفظ سجلات الكون المعلوماتية . هذه السجلات تحتوى على جميع المعلومات التي تخص الكون منذ بداية الوجود و سوف لن تزول أبداً ، و ستبقى حتى نهاية الوجود.
بالإضافة إلى التعاليم الفلسفية الشرقية ، و تعاليم المتصوفين العرب الذين اقتربوا في كتاباتهم من هذا المفهوم ، و غيرهم من روحانيين و متأملين و متصوفين .. ، نجد أن الكثير من المفكرين العصريين قد اقتربوا من هذا المفهوم أيضاً . و استخدموا مصطلحات مختلفة من أجل تعريف هذا الكيان ألمعلوماتي الخفي .
أشار إليه الدكتور " ريتشارد . م . بروك " ( 1837م 1902م ) " بالوعي الكوني " ، و جعله عنوان لكتابه الشهير . وصف هذا الكيان الخفي بالضوء .. ضوء غير قابل للوصف .. ضوء نادر غير مألوف .. ضوء يكمن وراء الكلمات و اللغة مما يصعب شرحه .
و قال أنه هناك حالات معيّنة ، يمكن أن يتواصل به أشخاص معيّنون ، بشكل عفوي .. فجائي .. دون سابق تحضير أو إدراك . فيشعر بأنه مغمور بما يشبه غيمة أو لهب غامض ، و يترافق ذلك مع شعور بالابتهاج و النشوة .. حالة تنوّر .. تكشف خلال لحظات معدودة عن حقيقة الكون .. و القصد من الوجود .. و يدرك كل ما هو غامض على الإنسان .. يدركه خلال هذه الفترة الزمنية التي لا تتجاوز لمحة البصر
يعلم الشخص الذي يدخل هذه الحالة بأن الكون هو حيّ .. و أن الحياة هي حالة أزلية .. و روح الإنسان لا تموت .. و أساس الحياة هو الحب .. و أن السعادة هي هدف الإنسان .. و سيدركها في النهاية .. آجلاً أم عاجلاً .
الخوف من الموت يزول .. الشعور بالخطيئة تزول .. في هذه اللحظات القليلة ، تتغيّر شخصية الإنسان .. و تصبح أكثر فتنة و وداد .. في هذه اللحظات بالذات ، يتعلّم الإنسان أشياء كثيرة لا يستطيع تعلّمها في حالته العادية مما يتطلّب ذلك سنوات طويلة من الدراسة و البحث في هذا المجال .. لكن للأسف الشديد .. هذا المجال قد انقرض في العصر الحديث ، ذات الفكر المنحرف .
و صف هذه الحالة أيضاً الفيلسوف " أبراهام ه . ماسلو " ( 1908م 1970م ) . و أطلق عليها اسم " تجربة القمة " أي يصبح فيها الشخص في قمة التجربة الروحانية .
وصف هذه الحالة أيضاً الفيلسوف و عالم النفس " وليام جيمس " ، و سماها بالحالة الروحانية ، أو التجربة الروحانية .
أما رجال العلم الماديين ( العلمانيين ) ، فقد اعترف بعضهم بهذا الكيان العقلي و أشاروا إليه باعتمادهم على المصطلحات المنهجية . اعتقدوا بوجود عقل كوني عظيم يجمع كل العقول ، و يحتوي في مخزونه على كل التجارب الفردية للبشر ، و بنفس الوقت ، يمكن لأحد هذه العقول أن ينهل من التجارب التابعة لغيره بالإضافة إلى معلومات مخزونة أخرى .
سماه الدكتور " وزلي ه . كيتشوم " بالعقل الباطن الجماعي . و توصل إلى هذا المفهوم الجديد للعقل بعد دراساته المتواصلة التي أجراها على الروحاني الأمريكي الشهير " أدغار كايسي " الملقّب بالنبيّ النائم . بسبب قدرته على معرفة معلومات غيبية ( ماضية ، حاضرة ، مستقبلية ) عن طريق الدخول في غيبوبة .
يقول الدكتور :
" إن عقل " كايسي " الباطني .. هو على تواصل مباشر بجميع العقول الباطنية الأخرى .. و يستطيع معرفة كل المعلومات المخزنة في جميع العقول الباطنية الموجودة على هذه الارض .. و بهذه الطريقة ، يستطيع جمع الملايين من المعلومات و التجارب الشخصية الخاصة بكل فرد و التي تم تخزيتها في ذلك العقل الباطني الجماعي .. " .
استنتج عالم النفس " كارل غوستاف جونغ " أن الدلائل تشير إلى وجود عقل لاواعي "عام" إلى جانب العقل اللاواعي "الخاص" في كل إنسان . و سما هذا العقل ب"اللاوعي الجماعي" أو "اللاوعي السلالي". فهو العقل المشترك بين جميع الأجناس و السلالات على السواء .
كتب طبيب النفس " سيغموند فرويد " يقول : لقد توصلت إلى استنتاج يثبت وجود عقل جماعي ، تتم فيه عمليات التفكير و الإجراءات العقلية المختلفة كما تجري في العقل الفردي العادي .
أشار العديد من علماء النفس إلى هذا الكيان الخفي الذي لازال الجدال قائماً حول مظاهره و طريقة عمله و مادته و غيرها من ميزات لا تزال زئبقية و غامضة بالنسبة للباحثين .
لكن بعد المرور على العديد من الدراسات و الأبحاث المختلفة ، ( بالإضافة إلى تجربتنا الشخصية ) ، نجد أن للعقل مظاهر أكثر من ما يوصفه لنا المنهج العلمي السائد .
و إذا قمنا باستخلاص كل المعلومات التي حصلنا عليها بخصوص هذا المجال ، نجد أن العقل مقسوم إلى عدة أقسام مختلفة ( العلم المنهجي يقسمه إلى قسمين ) ، و سوف نعددها بمصطلحات و تسميات عامة مألوفة تساعد على فهم الموضوع و ليس من الضرورة أن نأخذها بالمعنى الحرفي
http://aloom.co.cc/vb/showthread.php?t=29