الطيب المطيب
عمار بن ياسر رضي الله عنه
دخل عمار بين ياسر على رسول الله "صلي الله عليه وسلم" في دار الأرقم
وهو يبكي بكاءاً مراً، تكاد تخنقه عبراته
فسأله النبي "صلى الله عليه وسلم" "ما وراءك؟!"
قال: شرٌ يا رسول الله!
ما تُركتُ حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير!!...
قال:"كيف تجد قلبك؟"
قال: مطمئناً بالإيمان...
قال: " فإن عادوا لك، فعد لهم"
رواه ابن جرير والبيهقي
وتلك رخصة منحت لمن لا يقوى على العذاب
في النطق بكلمة الكفر بشرط إطمئنان قلبه بالإيمان
وكان السبب فيها ما حدث لعمار بن ياسر وأمه وأبيه..
فقد نزل قول الله عز وجل:
" من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذابٌ عظيم " النحل 106
وحين أُبلغت هذه الرخصة لسمية أم عمار "رضي الله عنهما" قالت:
والله ما أنطق بكلمة الكفر أبداً بعد أن نجاني الله منه..
وإستمرت في تحمل العذاب حتى فقد المعذبون لها صبرهم
فطعنها أحدهم بالحربة في فرجها فقتلها
وإصبحت بذلك أول شهيدة في الإسلام..
وأصبح الشرف كل الشرف لإبنها عمار أن يُطلق عليه لقب:
عمار ابن سمية.
ذلك الشاب معدوم المال، معدوم الجاه..
الذي كان من السبعة الأوائل الذين أظهروا الإسلام بمكة
مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم": ابوبكر..بلال..صهيب..عمار..ياسر ..سمية ..خباب..
وقد أسلم هو وصهيب في لحظة واحدة
حيث إلتقيا على باب دار الأرقم بن أبي الأرقم
ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" مستخفٍ فيه في أول الإسلام، فدخلا سوياً، وأسلما سوياً.
وقد تولى بنو المغيرة بن مخزوم عذاب عمار، وأبيه وأمه عذاباً لا طاقة لبشر على إحتماله ليردوهم عن الإسلام
ولم يكن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يملك لهم شيئاً إلا أن يقول:
"صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"
رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وابن عساكر عن جابر.
ويتمكن عمار بن ياسر من الهجرة إلى المدينة المنورة
ويلحق بمصعب بن عمير..ويتولى بناء مسجد "قباء"
وهو أول مسجد أسس في الإسلام..يبنيه عمار بن ياسر في قباء
في حي بني عمرو ابن عوف إستعداداً لمقدم رسول الله "صلى الله عليه وسلم"..
وقد صُليت في هذا المسجد أول جمعة في الإسلام..
ذلك المسجد الذي قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في شأنه:
"من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كانت له كجزاء عمرة"
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة والحاكم.
وينتظر عمار بن ياسر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في المدينة..
حتى إذا جاءها لم يفارقه لحظة
وشهد معه المشاهد كلها، بدءاً من غزة بدر.. ثم احد..فالخندق
ويعمل عمار في حفر الخندق بجد وعزيمة..ويغطي التراب لحيته
فيراه الرسول "صلى الله عليه وسلم" فينفض التراب عن لحيته بيده الشريفة
ويقول له: "أبشر يا عمار..تقتلك الفئة الباغية"
تحفة الحوذي أبواب المناقب.
ويحفظ الصحابة هذه البشرى، ولكن لا يعلمون متى تتحقق..
ويجاهد عمار في دين "الله" ويشهد جميع الغزوات مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا يتخلف عن غزوة واحدة
ويشهد معه بيعة الرضوان ويصير مثلاً وقدوة للأمة
بقول النبي "صلى الله عليه وسلم"
"وإهتدوا بهدي عمار"
مسند الإمام أحمد ..
ذلك الهدى الذي تشير إليه عائشة أم المؤمنين "رضي الله عنها"
إلى بعض علاماته وأماراته بروايتها لحديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم":
"ما خُير عمار بين أمرين إلا إختار أرشدهما"
تحفة الأحوذي أبواب المناقب.
وفي يوم من الأيام يختلف خالد بن الوليد مع عمار بن ياسر
فيغلظ له القول، فيتركه عمار ويذهب إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
ويلحق به خالد ويستمر في إغلاظ القول له
والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويسكت..
فبكى عمار وقال: يا رسول الله، ألا تراه؟!
فرفع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" رأسه وقال:
" من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله"
مسند الإمام أحمد
فيقول خالد بن الوليد:
فخرجت خلف عمار..فما كان شيء أحب إلي من رضا عمار
فأخذت أسترضيه حتى رضي..
وقد كان الأصحاب يحرصون على رضاء عمار بن ياسر بعد علمهم
بهذا الذي قاله رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في شأنه..
بالإضافة إلى أنه كان إذا إستأذن في الدخول عليه قال:
"إئذنوا له: مرحباً بالطيب المطيب"
مسند الإمام أحمد.
وينتقل الرسول "صلى الله عليه وسلم" إلى الرفيق الأعلى.
.وعمار حافظ للعهد، طائع لأبي بكر الصديق، منفذ لأوامره..
ويخرج لقتال مسيلمة الكذاب..ويشتد القتال..
فقد كان الكثيرون يحيطون بمسيلمة
حتى كاد بعض المسلمين أن يفر من ساحة المعركة
فينادي فيهم عمار بن ياسر:
يا معشر المسلمين..أمن الجنة تفرون؟ّ
أنا عمار بن ياسر هلم إلي..
ويصول ويجول بسيفه
وتأتيه ضربة تقطع أذنه وتبقى معلقة في وجهه بجدلة رقيقة
وهو لا يبالي بذلك..
وظل يقاتل حتى كتب الله النصر للمسلمين
وقُتل مسليمة الكذاب الإستيعاب...شر قتلة...
وتفرق من بقي من جيشه..كل يريد أن ينجو بنفسه..
وتمضي الأيام..
وتأتي خلافة عمر بن الخطاب، ثم خلافة عثمان بن عفان، ثم خلافة علي بن أبي طالب..
وعمار بن ياسر مثلٌ يحتذى في الجهاد في سبيل الله في كل ميادين الجهاد
فارس بالنهار، راهب بالليل..رغم أنه قد بلغ من العمر ثلاثة وتسعين عاماً.
ويحدث الخلاف بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان.
.وينضم عمار بن ياسر لجيش على بن أبي طالب..
ويشهد معه وقعة الجمل ثم يشهد معه وقعة صفين..ويقول:
والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر (أغصان النخيل ببلدة هجر" لعلمت أنا على حق، وأنهم على الباطل
الإستيعاب.
ويتوقف فريق من الصحابة، لا ينضمون إلى علي ولا إلى معاوية
معتزلين هذه الفتنة الكبرى..ومنهم خزيمة بن ثابت الأنصاري
الذي شهد له الرسول "صلى الله عليه وسلم" بأن شهادته بشهادة رجلين بقوله:
" من شهد له خزيمة فهو حسبه"
أخرجه أبو داوود في سننه، ذكره إبن عبد البر في الإستيعاب.
يحمل خزيمة سيفه، ولا يشارك في المعركة..
ويظل يراقب سيرها..
وحين يُسأل لماذا يقف هذا الموقف، ولا ينحاز لأحد الفريقين..
يقول: إني أنتظر حتى يُقتل عمار بن ياسر.. فأنظر من يقتله..
لأني سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول:
"ويح إبن سمية تقتله الفئة الباغية"
عن عمرو بن ميمون رضي الله عنه رواه البخاري والترمذي..
وحينئذ سوف أنضم للفريق الآخر..
ويصول عمار بن ياسر ذو الثلاث والتسعين سنة بسيفه وهو يهتف مستبشراً
: اليوم ألقى الأحبة..محمداً وحزبه
الإستيعاب
ويستريح قليلاً من عناء المعركة ويطلب شراباً يشربه فيأتونه بإناء فيه لبن..
وحينما يراه يتهلل وجهه فرحاً ويقول:
لقد قال لي رسول الله "صلى الله عليه وسلم" :
"يا عمار، آخر شربة تشربها من الدنيا..ِشربة لبن"
عن ابي هرير رضي الله عنه، الترمذي.
ثم يوصي من حوله قائلاً:
إدفنوني بثيابي فإني مخاصم..ويأخذ سيفه، ويندفع إلى ساحة المعركة، ويسقط شهيداً...
وهنا...
وهنا فقط ينضم خزيمة بن ثابت الأنصاري "رضي الله عنه"
إلى جيش علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" وهو يقول:
الآن قد تبين الحق من الباطل.. الآن عرفت من هي الفئة الباغية!!
ويفاجأ معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص برجلين يدخلان عليهما
يبشرانهما بقتل عمار بن ياسر، وكل منهما يدعي قتله
يختصمان فيه..فينفجر عمرو بن العاص باكياً وهو يقول:
والله، إن يختصمان إلا في النار!!
والله، لوددت أني متُ قبل هذا اليوم بعشرين سنة!!!!!