المصلوب الطائر
خُبيب بن عدي
كان خبيب بن عدي زينة شباب الأوس، ومن السابقين في الإسلام
ومن أشجع الأنصار وأشدهم تصلباً في الحق...
وقد خرج مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في غزوة بدر وأبلى فيها بلاءاً حسناً وقتل رجلاً من صناديد قريش يدعى الحارث بن عامر بن نوفل...
وطار الخبر إلى أهل مكة
وعلم بنو الحارث بذلك فحفظوا الاسم وتربصوا بصاحبه حتى يثأروا لمقتل أبيهم...
ويشاء الله تبارك وتعالى أن يبعث رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
عشرة من الرجال يتحسسون أخبار قريش، وكان منهم خبيب بن عدي
وأمر عليهم عاصم بن ثابت..
فإنطلقوا حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم بقريب من مائة رامٍ، فإقتصوا آثارهم
حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه
قالوا:
نوى تمر يثرب
فإتبعوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع مرتفع من الأرض فتحصنوا به، فأحاط به القوم وقالوا:
إنزلوا وأعطونا بأيديكم (إستسلموا بدون مقاومة)
ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحداً
فقال عاصم بن ثابت أمير السرية:
أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك..
فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصماً في سبعة من أخوانه..
ولم يبقى إلا ثلاثة نزلوا إليهم على العهد والميثاق وهم:
خبيب بن عدي، زيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق
فلما تمكنوا منهم أوثقوهم
فقال عبد الله بن طارق:
هذا أول الغدر والله لا أصصحبكم إن لي بهؤلاء لأسوة (يقصد من قتل من أخوانه)
وقاومهم فجرجروه وأبى أن يصحبهم فقتلوه، وإنطلقوا بخبيب وزيد إلى مكة..
فباعوا خبيباً إلى بني الحارث ليأخذوا ثأرهم منه
وباعوا زيد إلى أهل عقبة بن معيط..
وأخذ بنو الحارث خبيباً فأوثقوه، وسجنوه، وساموه سوء العذاب
محاولين أن يردوه عن دينه، فلم يفلحوا
فأخبروه بقتل زميله زيد بن الدثنة حتى تنهار مقاومته..
فما زاده ذلك إلا إصراراً على التمسك بدينه وعقيدته فقرووا قتله، والخلاص منه..
فإستعار من بعض بنات الحارث موسى ليزيل بها شعره إستعداداً للقتل فأعارته إياها
وكان لها صبي صغير فغفلت عنه فحبا حتى وصل إلى خبيب بن عدي في محبسه
وطار عقل المرأة، وأسرعت فوجدت صبيها يجلس على فخذ خبيب والموسى بيده ففزعت المرأة فزعة رآها خبيب في عينيها فقال:
أتحسبين أني أقتله؟! ما كنت لأفعل ذلك!!..
سبحان الله..نعم ما كان خبيب ليفعل ذلك
وهو صاحب رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
الذي كان قدوة لأصحابه في الوفاء وحسن الخلق، وما كان من شيمته الغدر أو الخيانة
أو إرهاب النساء والصبيان
ولو شاء خبيب لإنتقم لنفسه بقتل الصبي، آو إحتفظ به كرهينة حتى يحلوا وثاقه
ويعطوه فرساً وسيفاً ليهرب إلى المدينة وينجو بنفسه..
ولو فعل ذلك ما إستحق أن يكون صاحباً لمن بعث ليتمم مكارم الأخلاق..
ولنستمع لشهادة أم الصبي حيث تقول:
"والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده، وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمرة، إنه لرزق رزقه الله خبيباً
...عن ابي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري.
ولما أجمع القوم أن يقتلوا خبيباً، خرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه في الحل
فطلب إليهم أن يصلي ركعتين..فتركوه فصلى
ثم قال:
والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت..
فكان خبيب أول من سن صلاة ركعتين لمن يُقتل صبراً
(أي ينتظر القتل كالمحكوم عليه بالإعدام وما إلى ذلك).
ويأتي أبو سفيان
ويقول لخبيب:
يا خبيب، أتحب أن تكون في أهلك وولدك معافى آمناً ويكون محمد في مكانك؟!
فأنتفض خبيب، وقال:
لا والله ما أحب أن أكون في دراي آمناً معافى ومعي الدنيا وما فيها..ويصاب محمدٌ بشوكة..
فيضرب أبو سفيان كفاً بكف ويقول:
والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً!!!
ويقوم بنو الحارث بإعداد صليب من جذوع الأشجار ليصلبوا عليه خبيباً
فينظر إليهم ويقول:
اللهم إحصهم عدداً، وإقتلهم بدداً، ولا تبقِ منهم أحدا..
ثم ينشد شعراً يقول فيه:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا
قبائلهم وإستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
وقربت من جذعٍ طويل ممنع
وكلهم يبدي العداوة جاهداً
عليَ لأني في وثاق بمضيع
إلى الله اشكو غربتي بعد كربتي
وما جمع الأخزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما أصابني
فقد بضعوا لحمي وقد ضل مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد عرضوا بالكفر والموت دونه
وقد ذرفت عيناي من غير مدمع
وما بي حذار الموت، إني لميتٌ
ولكن حذاري حرُ نارٍ تلفع
فقام إليه عقبة بن الحارث فرماه بالنبل فقتله.
وإستجاب الله لعاصم بن ثابت أمير السرية فأرسل جبريل
فأخبر النبي "صلى الله عليه وسلم" بالخبر
فأرسل الزبير بن العوام،والمقداد بن عمرو بفرسيهما
إلى حيث قتل عاصم بن ثابت ليدفنوه ومن معه
وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى حيث صلب خبيب بن عدي لدفنه
حتى لا يظل معلقاً على الصليب
ويذهب عمرو متخفياً يتحين الفرصة لتنفيذ أمر الرسول "عليه الصلاة والسلام"
ويحكي فيقول:
جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون
فأطلقته فوقع إلى الأرض، ثم إقتحمت، فإلتفتُ، فكأنما إبتلعته الأرض
ولم يعثر لجثة خبيب على أثر.
وهكذا كان خبيب بن عدي أول مصلوب في الإسلام في سبيل الله..
ولا يعلم أحد أين ذهب جسده الطاهر وكأن الأرض قد إنشقت فإبتلعته، أو كأنه طار إلى السماء.