أشبهت خلقِي وخُلُقي
جعفر بن أبي طالب
دخل أبو طالب على النبي "صلى الله عليه وسلم"
فوجده يصلي وعن يمينه علي بن أبي طالب
فقال لإبنه جعفر:
صلِ جناح ابن عمك وصلِ عن يساره ..
وكان جعفر شقيقاً لعلي، وأسن منه بعشر سنين
وقد أسلم بعد إسلام علي بقليل وقيل أسلم قبله ثلاثون رجلاً..
وحين إشتد أذى المشركين لمن أسلم
أذن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" للقادرين منهم بالهجرة إلى الحبشة
حيث يحكمها ملك لا يُظلم عنده أحد..
وهاجر جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة مع من هاجر إليها فأكرم النجاشي وفادتهم..
وإستشاطت قريش غضباً لهروب هؤلاء بدينهم
وعيشهم في سلام إلى جوار ذلك الملك العادل الذي كان مسيحياً مخلصاً لدينه
فقرر زعماؤها إرسال وفد برئاسة عمرو بن العاص لإسترجاع هؤلاء الذين تركوا دين قومهم وخرجوا عن طاعة آبائهم..
ورفض الملك العادل أن يجيب طلب عمرو بإعادة المهاجرين معه حتى يسمع منهم..
وما كان للباطل أن يهزم الحق
فقد تكلم المهاجرون وشرحوا للنجاشي ما كانوا عليه في الجاهلية من:
غدر وإغارة وعقوق للأمهات ووأد البنات وهضم لحق الجار وعبادة الأصنام
وكيف أن الإسلام جاء يأمرهم بالصدق والصلة والعفاف وبر الوالدين وحسن الجوار وعبادة الله الواحد الأحد..
ورق قلب النجاشي لما سمعه من مكارم الأخلاق التي إجتمعت عليها الأديان وظهر ذلك جلياً على وجهه..
وهنا فكر عمرو بن العاص في حيلة يثير بها غضب النجاشي وحميته لدينه...
فقال:
أيها الملك..إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً ويزعمون أنه عبد...
وأفلحت الحيلة وغضب النجاشي غضباً شديداً
وإلتفت لجعفر بن أبي طالب الذي كان يتكلم باسم المهاجرين ويتحدث عنهم
سائلاً إياه عما يقولونه في عيسى ابن مريم..
فقال جعفر:
نقول فيه ما أخبرنا به نبينا "عليه الصلاة والسلام" عن ربه عز وجل..
ثم قرأ عليه بصوته الرخيم الممتلئ إيماناً وخشوعاً سورة "مريم"
فبكى النجاشي وفاضت الدموع من عينيه ثم خط خطاً في الأرض بعصاه وقال:
ليس بين الإسلام والمسيحية إلا هذا الخط الدقيق والله إن هذا الكلام وكلام عيسى ابن مريم يأتي من مشكاة واحدة..
ثم أمر برد الهدايا لوفد قريش ولم يقبلها وأمر بإكرام وفادة المسلمين المهاجرين إليه والعناية بهم ورعايتهم وعاد عمرو بن العاص ومن معه إلى مكة خائبين وعاش المهاجرون في جوار هذا الملك العادل في أمن وأمان
وتمضي الأيام..
وتستقر الأمور في المدينة المنورة بعد هجرة النبي "صلى الله عليه وسلم" إليها ..
ويهاجر جعفر بن أبي طالب للمدينة ليلحق برسول الله "صلى الله عليه وسلم"
وأصحابه ويصادف وصوله يوم فتح خيبر
وحين يدخل على النبي "صلى الله عليه وسلم"
يفرح به فرحاً شديداً ويحتضنه ويقبله بين عينيه ويقول:
ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر"
ويلازم جعفر بن أبي طالب رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
ويشهد معه غزواته ويمتدحه النبي "صلى الله عليه وسلم" بقوله:
"أما أنت يا جعفر فأشبهت خلقِي وخُلُقي وأنت من عترتي التي أنا منها
ويحيط فقراء المهاجرين بجعفر ويتعلقون به لشدة عطفه عليهم ومشاركتهم له في طعامه قل أو كثر حتى لقبه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بأبي المساكين..
وتأتي غزوة مؤتة
ويؤمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" زيد بن حارثة على الجيش ويقول:
"إن قُتل زيد فالأمير جعفر بن أبي طالب فإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة
ويخرج الجيش في السنة الثامنة من الهجرة
لملاقاة جيش الروم في بلدة مؤتة قريباً من الشام..
وتدور المعركة الشرسة ويقتل زيد بن حارثة وتكاد الراية تسقط من يده
فيلتقطها جعفر ويتقدم الصفوف على فرسه الشقراء
ويبث الرعب في قلوب الأعداء الذين يجعلونه هدفاً لهم بأي ثمن
فينزل عن فرسه ويعقرها ويقاتل ماشياً على أقدامه
ليشعرهم أنه لا مجال للفرار أو التراجع فقد عقر فرسه التي قد تساعده على الهروب
وأنه إما منصور أو مقتول ..
فكان بذلك أول من عقر فرسه في الإسلام ليكون مثلاً يحتذى للشجعان الذين لا يهابون الموت في سبيل الله.
ويتكاثر عليه جنود العدو الذي جاء في جيش قوامه مائتا ألف مقاتل
ويقطعون يده التي تحمل الراية فيلتقطها قبل أن تسقط بيده الأخرى
فيقطعونها فيحتضن الراية بعضديه حتى لا تسقط على الأرض
وقبل أن يتلقى الضربة القاتلة يسلم الراية لعبد الله بن رواحة..
وقد اصيب ببضع وسبعين إصابة
ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح كلها فيما أقبل من جسده...
وينزل جبريل إلى النبي "صلى الله عليه وسلم"
يخبره بمصرع القادة الثلاثة ويتولى خالد بن الوليد القيادة وإنتصار جيش المسلمين فيسرع النبي "صلى الله عليه وسلم" إلى بيت جعفر بن أبي طالب
يطلب رؤية أبنائه وتأتيه أسماء بنت عميس "زوجة جعفر" بهم
وقد غسلتهم وطيبتهم فأخذ النبي يقبلهم ويتشممهم وعيناه تذرفان
وتسأله أسماء:
بأبي وأمي أنت يا رسول الله أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟!
قال:
نعم لقد أصيبوا اليوم
ويحكي عن جعفر فيقول:
"والله لقد أبدله الله بذراعيه جناحين يطير بهما في الجنة ...
فصاحت أسماء باكية
ودخلت فاطمة بنت النبي "صلى الله عليه وسلم" تصرخ
وتقول:
واعماه...
فقال النبي "صلى الله عليه وسلم"
على مثل جعفر فلتبكِ البواكي...
ويخرج إلى أصحابه وهو يبكي
ويقول:
أخواي!! ومؤنساي!! ومحدثاي!!
ثم يرجع إلى بيته ويقول لنسائه :
"إصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم"
وتصبح سنة أن يصنع الناس طعاماً لأهل الميت الذين يشغلهم الحزن عن ذلك..
وصدق أبو هريرة رضي الله عنه حيث يقول:
ما إحتذى النعال ولا ركب المطايا ولا ركب الكور بعد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أفضل من جعفر بن أبي طالب.