تدخل الجنة حبواً
عبد الرحمن بن عوف
فوجئ أهل المدينة ذات يوم برجة شديدة وجلبة...
وتسأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الأمر فقيل لها:
تلك عير لعبد الرحمن بن عوف جاءت من الشام.
.فقالت:
وهل تحدث العير هذه الرجة؟
قيل لها
يا أم المؤمنين سبعمائة بعير محملة بالبر والدقيق والطعام..
فقالت:
والله سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول :
قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً ...
ويطير الخبر لابن عوف وما أنزلت الأحمال من على الإبل بعد، فيهرول إليها ويقول:
يا أم ا لمؤمنين أشهدك أن العير بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله عز وجل...
ذلك عبد الرحمن بن عوف الذي كان من أغنى أغنياء الصحابة ولم يستمتع بمال قط...
فكلما قدم له الطعام أصنافاً بكى وقال:
والله ما شبع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من خبز الشعير حتى مات...وما أرى أنا أبقينا لما هو خيرٌ لنا...
وقدم له طعام الإفطار يوماً وكان صائماً فبكى، وبكى حتى أبكى من حوله ثم قال:
إرفعوا عني الطعام..
فقال له أصحابه:
أفطر فقد كنت صائماً..
فيقول:
قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدت رأسه، وقتل حمزة بن عبد المطلب وهو خيرٌ مني...ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا...
كل هذا الخوف والوجل رغم أنه واحد من العشرة المبشرين بالجنة..
وهو واحد من الستة من أهل الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم وقال عنهم:
لقد مات رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وهو عنهم راضٍ....
وهو واحد من الثمانية الذين أسلموا في بدء الإسلام
وقبل أن يدخل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" دار الأرقم بن أبي الأرقم...
وهو واحد من الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق "رضي الله عنه"
عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن بن عوف...
ذلك الصحابي الجليل الذي هاجر إلى الحبشة الهجرتين
ثم هاجر إلى المدينة المنورة فكان من السابقين الأولين...
وآخى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بينه وبين سعد بن الربيع من الأنصار
فقال له سعد:
يا عبد الرحمن بن عوف، إن لي مالاً: فهو بيني وبينك شطران..ولي إمرأتان فأنظر أيتهما أعجبتك حتى أخالعها فإذا خلت تزوجتها..
قال له ابن عوف:
لا حاجة لي في أهلك ومالك وبارك الله لك في أهلك ومالك..دلوني على السوق...
ويتعفف عبد الرحمن بن عوف ويذهب إلى السوق يبيع ويشتري
ويعود بفضل من أقط " لبن رائب" وسمن..
ويعلم رسول الله " صلى الله عليه وسلم" بذلك فيسر
ويدعو له بالبركة التي تحل عليه ويتسع رزقه ويكثر ماله
حتى يقول هو عن نفسه
والله لقد رأيتني إن رفعت حجراً وجدت تحته ذهباً وفضة...
وببركة دعوة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يصبح ابن عوف من أغنى الأغنياء
فيقول له النبي "صلى الله عليه وسلم"
يا بن عوف إنك من الأغنياء وإنك تدخل الجنة حبواً ..فأقرض الله يطلق لك قدميك
ويعمل عبد الرحمن بن عوف بوصية رسول الله "صلى الله عليه وسلم" له
فيتصدق بشطر ماله وكان أربعة آلاف درهم..
ثم تصدق بأربعين ألف دينار..
وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله
ثم حمل على خمسمائة بعير في سبيل الله وأعتق ثلاثين عبداً في يوم واحد...
وعلى قدر إنفاقه في سبيل الله كان مقاتلاً شجاعاً
وما تخلف عن رسول الله في غزوة غزاها قط..
فشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها معه وأصيب في غزوة أحد بإحدى وعشرين جراحة
منها إصابة في قدمه جعلته يعرج طيلة حياته
ويفتخر أنها كانت في سبيل الله ومع رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، ومنها
إصابة أسقطت أسنانه الأمامية فكان أهتماً...
وقد أرسله رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في غزوة دومة الجندل
وعممه بيده الشريفة، وأسدل عمامته بين كتفيه
وقال له:
إن فتح الله عليك فتزوج بإبنة ملكهم
ففتح الله عليه وتزوج بإبنة ملكهم تماضر بن الأصبغ بن ثعلبة
التي ولدت له محدثاً عظيماً هو أبو سلمة بن عبد الرحمن
وهو الصحابي الوحيد الذي صلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خلفه في سفره
فقد كان يصلي بأصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم"
وأقبل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فأراد ابن عوف أن يتأخر
فأومأ إليه الرسول "صلى الله عليه وسلم" أن إبق مكانك
فبقي إماماً وصلى الرسول"صلى الله عليه وسلم" خلفه...
ومع كل ذلك فقد كان رضي الله من أشد الناس ورعاً..
فحين مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وأوصى بالخلافة لواحد من ستة مات رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وهو عنهم راض:
عثمان بن عفان، علي بن ابي طالب، سعد بن أبي وقاص، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله، عبد الرحمن بن عوف...
جاءه الناس يقولون له:
يابن عوف أنت أحق بالأمر...
فقال:
والله لو أن مدية "سكيناً" وضعت في حلقي ثم أنفذت إلى الجانب الآخر لكان عندي خيراً من هذا الأمر...
ويذهب إلى أصحابه من أهل الشورى – الخمسة الأخرين-
فيقول لهم:
من يخرج نفسه منها ويختار للمسلمين؟
فلم يجيبوه إلى ذلك ...
فقال:
أنا أخرج نفسي من الخلافة، وأختار للمسلمين
فأجابوه إلى ذلك وأخذ مواثيقهم على الرضى بإختياره..
ثم إختار عثمان بن عفان "رضي الله عنه" للخلافة
فبايع الجميع راضين بإختيار عبد الرحمن بن عوف...
ويعيش عبد الرحمن بن عوف طائعاً لله منفقاً في سبيل الله إنفاق من لا يخشى الفقر
حتى قال الناس:
أهل المدينة شركاء لابن عوف في ماله: فالثلث يقرضهم والثلث يقضي عنهم دينهم والثلث يصلهم ويعطيهم...
وكلما زاد في الإنفاق زادت ثروته
وزاد خوفه ووجله حتى أنه ذهب إلى أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها
يبكي ويقول:
يا أمه، خفت ان يهلكني كثرة مالي...
فقالت له
يا بني أنفق...
وينفق عبد الرحمن بن عوف، ويوصي بخمسين ألف دينار
وألف فرس في سبيل الله
ويوصي لمن بقي من أهل بدر وكانوا مائة بأربعمائة دينار لكل واحد منهم...
ويصر عثمان بن عفان وكان ثرياً على أخذ نصيبه
قائلاً:
مال ابن عوف صفو حلال، والطعمة منه عافية وبركة..
ومع ذلك فقد ترك "رضي الله عنه" ثلاثة آلاف شاة، وألف بعير، ومائة فرس
وترك ذهباً كلت أيدي الرجال من تقطيعه بالفئوس...
وصدق الله العظيم حيث يقول:
"قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه وهو خير الرازقين" سبأ آية 39
وصدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حيث يقول
" ما نقص مال من صدقة"
وتحين الساعة...ساعة الرحيل
وترسل عائشة "رضي الله عنها" إليه تعرض عليه أن يدفن إلى جوار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصاحبيه
فيقول رضي الله عنه:
ومن أنا حتى أرقى إلى ذلك الجوار..
ويطلب أن يدفن إلى جوار عثمان بن مظعون "رضي الله عنه"
صاحبه وحبيبه الذي تعاهد معه على أن:
من مات بعد أخيه دفن إلى جواره، حتي يكونا صاحبين في القبر كما كانا صاحبين في الدنيا...
وتصعد الروح إلى بارئها، ويموت الأمين عن خمسة وسبعين عاماً
ويحمل جنازته سعد بن أبي وقاص، ويبكي ويصرخ قائلاً:
واجبلاه ..واجبلاه
ويقف علي بن أبي طالب على قبره ويقول:
إذهب يا بن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت رنقها "الكدر والعكارة"....
ويتذكرا الواقفوا على قبره يوم أن كان بينه وبين خالد بن الوليد كلاماً وخلافاً يوم فتح مكة
فقال له خالد:
تستطيلون علينا بأيامٍ سبقتمونا بها (يقصد السبق في الإسلام)
فبلغ ذلك النبي "صلى الله عليه وسلم" فقال:
دعوا لي أصحابي...فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما أدرك مد (مكيال يملأ بالكفين) أحدهم، ولا نصيفه (نصفه)
صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
فمن ذا الذي يرقى إلى مقام عبد الرحمن بن عوف..أمين في السماء ...أمين في الأرض.....
سلام عليك يا صاحب رسول الله "صلى الله عليه وسلم"...سلام عليك في عليين