أصدق الناس لهجة
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه
كان جُندب بن جنادة المعروف بأبي ذر الغفاري
من قبيلة غفار التي لا يدرك لها شأو في قطع طريق القوافل
ومع ذلك فقد كان يؤمن بوجود إله واحد يستحق العبادة والطاعة
فلم يسجد لصنم ولم يعبد وثناً
وحين سمع بمبعث النبي "صلى الله عليه وسلم"
قال لأخ له:
إركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل
الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء
واسمع من قوله ثم ائتني..
فانطلق الأخ حتى قدم مكة وسمع من قول النبي "صلى الله عليه وسلم"
ثم رجع لأبي ذر فقال:
لقد رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول قولاً ما هو بالشعر..
فقال أبو ذر
ما شفيتني مما أردت
فشد رحاله وانطلق إلى مكة متخفياً
يبحث عن ذلك الذي يزعم أنه نبيٌ
وكلما وجد ملأً من الناس جلس قريباً منهم يستمع لكلامهم
حتى انتبه له علي بن أبي طالب
الذي حاول أن يعرف منه بغيته
ولما اطمأن له ابو ذر أخبره بمراده
فأخذه علي بن ابي طالب إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
فقال أبو ذر:
أنشدني مما تقول...
فقال النبي "صلى الله عليه وسلم":
ما هو بالشعر حتى أنشدك إنما هو قرآن
قال أبو ذر:
فإقرأ علي...
فقرأ عليه النبي "صلى الله عليه وسلم" من القرآن..
فقال أبو ذر:
أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله
فقال له النبي "صلى الله عليه وسلم":
ممن أنت؟
قال:
من غفار
فصعد بصره إليه، وعلت الدهشة وجهه
وأخذ يرفع بصره في أبي ذر ويخفضه
ثم قال:
إن الله يهدي من يشاء...
نعم إن الله يهدي من يشاء
فهاهو رجل من أشد القبائل عدواناً وإغارة على القوافل
ومن أشهرها في قطع الطريق والسلب والنهب
يؤمن ويسلم قبل أن يبرح مجلسه
وكان إسلامه بعد أربعة فكان خامس خمسة في الإسلام..
قال أبو ذر:
بم تأمرني يا رسول الله؟
قال:
إرجع إلى قومك وإدعهم إلى الإسلام فإذا ظهر أمري فائتني...
فقال أبو ذر:
والذي بعثك بالحق لا أعود حتى أجهر بها على رؤوسهم عند الكعبة..
فقال له النبي "صلى الله عليه وسلم":
لا تعرض نفسك لأذاهم
فأصر أبو ذر وذهب إلى البيت وملأ قريش حول الكعبة
فهتف على رؤوسهم :
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
فقاموا إليه وأوسعوه ضرباً حتى فقد وعيه
ولم يخلصه من أيديهم إلا العباس بن عبد المطلب
الذي قال لهم:
ويحكم أنه من غفار ولو علموا بذلك ما مرت لكم تجارة ولا قافلة
فتركوه ثم عاد إليهم في اليوم التالي وجهر بالشهادة فعادوا له
حتى خلصه العباس بن عبد المطلب للمرة الثانية
ثم أمره النبي "صلى الله عليه وسلم" فرجع إلى قومه يدعوهم للإسلام
ولم يكتفِ بقبيلته بل تعداها إلى قبيلة أسلم فاستجابوا له جميعاً لحسن منطقه وقوة إقناعه وحكمته...
وتمضي الأيام ويهاجر النبي "صلى الله عليه وسلم" إلى المدينة
وتستقر أمور المسلمين بها
ويفاجأ أهل المدينة يوماً بجموع غفيرة من الناس:
مشاة وركباناً ...
شيوخاً وصغاراً
رجالاً ونساءاً
يسدون الأفق ويثيرون الغبار
ولولا التكبير الذي كان يهتف به الجميع
لظن أهل المدينة أن جيشاً جاء يغزوهم
وتتقدم الجموع إلى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
وإذا بأبي ذر الغفاري يتقدم هذه الجموع
ويسلم على رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
ثم يشير جهة اليمين قائلاً:
غِفار يا رسول الله...
فيقول الرسول"عليه الصلاة والسلام":
غفار غفر الله لها
ثم يشير أبو ذر جهة اليسار قائلا:
أسلم يا رسول الله
فيقول الرسول " صلى الله عليه وسلم":
أسلم سالمها الله
وهكذا كان أبو ذر سبباً في إسلام قبيلتين بكامل رجالهما ونسائهما: غفار وأسلم...
وينقطع أبو ذر الغفاري "رضي الله عنه" لصحبة الرسول" عليه الصلاة والسلام"
ومرافقته في حضرته وسفره
ويفوز بشهادة منه لم يفز بها غيره
حيث قال فيه:
"ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر الغفاري"
وتأتي غزوة تبوك التي تسمى غزوة العسرة
فقد كانت في أيام شديدة الحر والقحط
وكانت أبعد غزوة غزاها رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
ويتخلف عنها كثير من الناس ومن خرج كان قليل الزاد
فقد كان العشرة منهم يتعاقبون بعيراً واحداً لقلة عدد الركائب...
بل كان بعض الناس يتخلف حتى بعد المسير من شدة الحر وبعد المسافة
فكان الأصحاب يقولون لرسول الله "صلى الله عليه وسلم":
تخلف فلان
فيقول:
دعوه إن كان فيه خير سيلحقه الله بكم وإن كان غير ذلك فقد أراحكم الله منه
ويسير الجيش يوماً وليلة ثم ينزل الناس للإستراحة
وقد تخلف مع من تخلف أثناء السير أبو ذر الغفاري
الذي تقاعست به ناقته فتركها، وحمل متاعه على ظهره ومشى محاولاً اللحاق بالركب..
وينتظر الأصحاب من تتحقق فيهم كلمة رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
إن كان فيه خير فسيلحقه الله بكم
وإذ هم يرون رجلاً قادماً من بعيد..
ينتزع رجلاه من الرمل بمشقة ..
يحمل متاعه على ظهره...
فيقولون:
يا رسول الله هذا رجل قادم من بعيد يمشي وحده
فيقول"عليه الصلاة والسلام":
كن أبا ذر
ويترقب الجميع ذلك القادم الذي يقترب شيئاً فشيء يكاد ينكفئ على وجهه
وإذا به أبو ذر الغفاري!!
فيهتف الناس جميعاً
إنه والله أبو ذر
فيتلقاه الرسول "صلى الله عليه وسلم" هاشاً باشاً ويقول:
"يرحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر يوم القيامة وحده"
وتمضي الأيام...وينتقل الرسول "صلى الله عليه وسلم" إلى الرفيق الأعلى
وتأتي خلافة أبي بكر الصديق تتبعها خلافة عمر بن الخطاب على نهج النبوة
وأبو ذر متفرغ للعبادة زاهداً في الدنيا
عاملاً بوصية رسول الله "صلى الله عليه وسلم" له
حيث يقول:
أوصاني رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بسبع: أوصاني بحب المساكين وبالدنو منهم وبأن أقول الحق ولو كان مراً وبألا أخشى في الحق لومة لائم وبأن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبأن أنظر لمن هم دوني ولا أنظر لمن هم فوقي....
وتأتي خلافة عثمان بن عفان وأبو ذر في الشام، يرى ما لم يعهده:
فقد تحولت بيوت الطين إلى قصور
وكثرت الحجاب والحراس حول الولاة وفاض المال في أيدي الناس
وأصبحوا يعيشون حياة الترفه والتنعم..
فيذهب إلى معاوية بن أبي سفيان أمير الشام ويدخل عليه وهو جالس في ملأ من أصحابه
فيقول:
أنتم الذين نزل القرآن على رسول الله وهو بين ظهرانيهم؟!! نعم أنتم هم...
ألم تقرأوا في كتاب الله:
" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" التوبة 34
فيرد عليه معاوية ملاطفاً:
يا أبا ذر نزلت هذه الآية في أهل الكتاب
ألم تقرأ أولها حيث يقول الله :
" إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله"
فيقول أبو ذر:
لقد نزلت فينا وفيهم ولنا ولهم
ويخرج أبو ذر من عند معاوية وهو يقول:
بشر الكنازين بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم يوم القيامة...
ويمشي بين الناس بهذا الشعار
ويقول:
عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟!
ثم يتذكر قول الرسول "صلى الله عليه وسلم" له:
"يا أبا ذر كيف أنت إذا رأيت الأمراء يستأثرون اليوم بالفيء؟! فقال: والذي بعثك بالحق لأضربن بسيفي فيقول له الرسول: " والذي بعثك بالحق لأضربن بسيفي فيقول له الرسول "صلى الله عليه وسلم" ألا أدلك على خير من ذلك؟!" قال: بلى...
قال إصبر حتى تلقاني
ويصبر أبو ذر الغفاري
ولكنه يذهب إلى أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم" يأمرهم بالخروج عن أموالهم
والإكتفاء بالكفاف، وأن يعيشوا عيشة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصاحبيه أبي بكر وعمر...
ويرسل معاوية إلى عثمان مستغيثاً:
يا أمير المؤمنين أدركنا فقد افسد أبو ذر الناس علينا
فيستدعيه عثمان بن عفان إلى المدينة وحين قدم عليه
قال له عثمان:
يا ابا ذر.. إبقَ إلى جواري وأفرض لك عطاءاً من بيت المال..
فقال أبو ذر:
يا أمير المؤمنين لا حاجة لي في عطائك
ولكن إئذن لي أن أذهب إلى الربذة (قرية مجاورة للمدينة) فأعتزل الناس..
فأذن له عثمان في ذلك..
وقد أخطأ بعض الكتاب حين زعم أن عثمان بن عفان قد نفى أبا ذر إلى الربذة
إذ الحقيقة أن أبا ذر هو الذي إختار الإعتزال
وإختار الربذة بالذات لتتحقق فيه نبوءة رسول الله "صلى الله عليه وسلم":
"ابو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم"
وما كان عثمان بالذي ينفي صاحباً من أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم"
يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم....
وخرج أبو ذر الغفاري إلى الربذة، وليس معه أحد إلا زوجته، وإبنة صغيرة له...
ويسمع بمكانه بعض الناس من أهل الكوفة
ويأتون إليه يحرضونه على الثورة على عثمان
فيقول لهم:
إن لعثمان على حق الطاعة، ووالله لو انه صلبني على أطول خشبة لسمعت وأطعت وصبرت وإحتسبت وعلمت أن ذلك خير لي، ولو أنه سيرني من أفق إلى أفق لسمعت وأطعت وصبرت وإحتسبت وعلمت أن ذلك خير لي..
وينصرف عنه المحرضون يائسين.
وتمضي الأيام.. ويمرض أبو ذر، ويشتد عليه المرض
وتبكي إمرأته
فيقول لها:
ما يبكيك والموت حق؟!
فتقول:
والله ما أبكي على موتك ولكني أبكي لأني لا أجد ما كفناً يسعك، ولا أدري ما أصنع وليس معنا أحد من الناس...
فيقول أبو ذر:
لا تبكِ، فسوف تأتي عصابة من المؤمنين معهم كفني يتولون أمري..
فتقول:
كيف ذلك وقد إنقطع الحجيج؟!!
ونحن في فلاة من الأرض ولا أثر لمخلوق..
فيقول لها:
لقد كنت جالساً يوماً عند رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مع نفر من أصحابه
فقال:
ليموتن رجلاً منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين
فكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ولم يبقى غيري
وقد أصبحت بالفلاة أموت
فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول لك
وإني والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبت
وتفاجأ المرأة بجماعة من الناس... تتجه إليهم
ويقولون:
من؟
فتبكي المرأة وتقول:
أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
فينزل القوم مسرعين باكين
وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه"
الذي يكب على أبي ذر ويقول:
إنا لله وإنا راجعون...
فيقول أبو ذر:
أبشروا.. أبشروا أنتم النفر الذين قال فيكم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" "عصابة من المؤمنين".. أنتم هم
ثم قال:
أصبحت اليوم حيث ترون ولو أن ثوباً من ثيابي يسعني لم أكفن إلا فيه
فأنشدكم بـ "الله" لا يُكفني رجلٌ كان أميراً أو عريفاً أو بريداً..
فيهتف شاب من الأنصار:
أنا والله ما توليت إمارة ولا جباية ولا حملت رسالة
ومعي ثوبان جديدان نسجتهما أمي بيديها من مال حلال..
فإستبشر أبو ذر وقال:
أنت صاحبي فكفني..
وتصعد روحه إلى بارئها راضية مرضية...
وتكفنه جماعة من المؤمنين ويصلي عليه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود..
ويدفن بالربذة وتتحقق نبوءة رسول الله "عليه الصلاة والسلام" :
"يرحم الله أبا ذر: يمشي وحده، ويموت وحده، ويحشر يوم القيامة وحده"...