بم سبقتني إلى الجنة
بلال بن رباح
أحد..أحد...أحد...
صرخات رددت جبال مكة السبعة صداها..
صرخات صاعدة من أعماق قلب مؤمن في جسد نحيل لعبد حبشي
أصر على أن يُظهر إسلامه ويعلنه على رؤوس الأشهاد
ضمن سبعة على رأسهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم"...
لقد كان بلال عبداً لأمية بن خلف، أحد صناديد قريش ورأس من رؤوس الكفر بمكة
الذي هاله بقدر ما أفزعه أن يخرج عبده عن طوعه
معلناً إسلامه وإيمانه برب محمد "صلى الله عليه وسلم" الواحد الأحد..
وكان لا بد من أن يُجعل عبرة حتى لا يحذو العبيد والإماء حذوه
فكان سيده يطرحه في الشمس على الرمضاء
ويضع الرحى الكبيرة على ظهره تارة وعلى صدره تارة
حتى تصهره الشمي ويكاد الظمأ يقتله
ويرش الماء البارد حوله كي تشربه الرمال
ولا ينال قطرة منه تبلل شفتيه المتشققتين من شدة الظمأ..
ويقول له:
أكفر برب محمد أخفف عنك ما بك من العذاب
فيهتف بلال من أعماقه:
أحد ...أحد.. أحد..
فيشتد سيده في عذابه ويشتد هو في عناده..
فيأخذه، ويربطه من عنقه بحبل من ليف
ويعطيه الغلمان يلعبون به في سكك مكة وشعابها
ويقذفونه بالحجارة حتى إذا ملوا تركوه في الشمس موثق اليدين والقدمين...
ويمر عليه ورقة بن نوفل ذلك الراهب الذي تنصر في الجاهلية
ويراه في هذا العذاب
فيقول له:
نعم يا بلال.. أحد.. أحد.. أحد والله يا بلال لئن مت لأتخذن قبرك حناناً "موضعاً للتبرك" وأرجو أن يقبلني الله فيه.
ويشفق النبي "صلى الله عليه وسلم" على بلال من هذا العذاب الذي لا تحتمله الجبال
فيقول لأبي بكر الصديق:
لو كان عندنا مال لإشترينا بلالاً وأعتقناه
ويفهم أبو بكر إشارة النبي "صلى الله عليه وسلم"
ويذهب إلى أمية بن خلف يعرض عليه شراء بلال ويزهده فيه
فيبيعه له بخمس أواق من فضة
ويقول له:
والله لو لم تعرض إلا آوقية واحدة لبعته لك
ويرد عليه أبو بكر قائلاً:
والله لو أبيت إلا مائة لإشتريته منك...
وإشتراه أبو بكر وأعتقه لوجه الله
فيقول عمر بن الخطاب:
أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا....
وتمضي الأيام ويلازم بلال رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
ويصبح أول مؤذن في الإسلام يؤذن للنبي "صلى الله عليه وسلم" في السفر وفي الحضر
ولا يتخلف عنه في غزوة أو سفر..
يحمل طعامه الذي أشار له النبي "صلى الله عليه وسلم" يوماً
بقوله:
" كان يمر علينا الشهر، ولا طعام لي ولبلال إلا شيئاً يواريه إبط بلال"...
وتأتي غزوة بدر ويخرج بلال مع النبي "صلى الله عليه وسلم"
ويرى بين جموع المشركين أمية بن خلف..
ذلك الجبار الذي كان يسومه سوء العذاب بمكة
فيهتف بلال قائلاً:
أمية بن خلف!! لا نجوت إن نجا..
ويهجم عليه هجمة الأسد الجريح
ويمكنه الله منه فيقتله بيده التي كان يوثقها أمية
ويشفِ الله صدر بلال ويذهب غيظ قلبه
ويهتف المسلمون في بدر:
أحدٌ أحدٌ أحد...
وتمضي الأيام وتفتح مكة أبوابها على مصراعيها لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصحبه
ويدخل النبي "صلى الله عليه وسلم" الكعبة ومعه بلال وأسامة ابن زيد
ويصلي فيها ركعتين، ويحطم الأصنام وكانت ثلاثمائة وستين صنماً-
وهو يقول:
جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً
ويأمر النبي بلال فيرقى على سطح الكعبة
ليهتف بأول أذان في مكة:
الله أكبر.. الله أكبر
فتردد جبال مكة صدى أذان بلال بكلمة الحق
بعد ما رددت أنينه
من قبل:
أحد..أحد..
ويبشر النبي "صلى الله عليه وسلم" بلالاً بالجنة قائلاً له:
يا بلال.. بم سبقتني إلى الجنة؟! ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشة نعليك أمامي!!
فقال بلال:
يا رسول الله ما أحدثت قط إلا وتوضأت على الفور
ووجدت أن لله علي أن أصلي ركعتين بهذا الوضوء..
وينتقل الرسول "عليه الصلاة والسلام" إلى الرفيق الأعلى
ويذهب بلال إلى أبي بكر الصديق
ويقول له:
يا خليفة رسول الله لقد سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
يقول:
أفضل أعمال أمتي الجهاد في سبيل الله"
وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت
إئذن لي في الإرتحال إلى الشام..
فقال أبو بكر:
يا بلال ، أنشدك الله يا بلال
وحرمتي وحقي لقد كبرت وإقترب أجلي أقم معي ولا تتركني...
فأقام بلال مع أبي بكر يؤذن له حتى مات أبو بكر..
وتولى الخلافة عمر بن الخطاب فذهب إليه وقال له مثل ما قال لأبي بكر
وحاول عمر أن يثنيه عن عزمه فأبى
وإرتحل إلى الشام مع أخ له في الله يقال له أبو رويحة
وذهبا يخطبان شقيقتين
فقال بلال لأهلهما:
أتيناكما خاطبين وقد كنا كافرين فهدانا الله وكنا مملوكين فأعتقنا الله وكنا فقيرين فأغنانا الله
فإن تزوجونا فالحمد لله
وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله....
فزوجوهما والحمد لله
وإستقر بلال في الشام حتى جاءها عمر بن الخطاب
فأذن له في بيت المقدس وهاجت ذكرياته فبكى في أذانه
وإمتنع عن الأذان بعد ذلك
وذات يوم يرى بلال في منامه النبي "صلى الله عليه وسلم"
يقول له:
ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورنا؟!
فإنتبه بلال من نومه حزيناً
وشد الرحال إلى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
وأتى قبره وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه
فأقبل عليه الحسن والحسين "رضي الله عنهما"
فجعل يقبلهما ويضمهما ويبكي
فقالا له:
يا بلال نشتهي أن تؤذن في السحر
فلم يستطع أن يرفض هذا الطلب في هذا المقام..
فعلا سطح المسجد في السحر
وقال:
الله أكبر .. الله أكبر
فإرتجت المدينة
فلما قال:
أشهد أن لا إله إلا الله...
زادت رجتها
فلما قال:
أشهد أن محمداً رسول الله..
خرج الرجال جميعاً
وخرجت النساء من خدورهن
فما رؤي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم
فقد هيج أذانه وصوته الرخيم أحزان الناس وأشواقهم لسيد الخلق" صلى الله عليه وسلم"
وبعد تلك الليلة المشهودة شد بلال رحاله عائداً إلى الشام مرابطاً فيها
متفائلاً ببشرى رسول الله "صلى الله عليه وسلم
" المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة"
وتأتي لحظة الرحيل ويموت بلال عن بضع وستين سنة
ويدفن في الشام ويلحق بالرفيق الأعلى
ليتقدم بين يدي رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في الجنة
كما كان يتقدم بين يديه في الدنيا.. يفسح له الطريق..
ويسمع الرسول "صلى الله عليه وسلم" خشخشة نعليه بين يديه...