اللفظة العذبة الرقيقة المهذبة لها أثر سامق في جذب الأفئدة، وتقوية العلاقة، وإزالة حواجز الرهبة والخوف، وزيادة أواصر المحبة. وانتقاء أطيب الكلمات والعبارات هو سلوك إيماني يمتثله الصالحون في أقوالهم كما قال الله تعالى
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ )(الحج: من الآية24) فجعل الكلام الطيب نوعاً من الهداية التي يسعى إليها العبد الصالح ؛ بل وحث إلى الخطاب الحسن مع الناس كما قال تعالى
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(البقرة: من الآية83). فاللفظة الطيبة صفة لازمة من صفات المسلم الصالح، وهي من الأسس التربوية التي يتربى عليها العبد منذ نعومة أظافره؛ فرقي المؤمن ليس فقط في فكره وتصوراته وقيمه وسلوكه وأخلاقه بل وكذلك في بيانه ومنطقه ، فلا يتلفظ بساقط القول وسوقي العبارة وردئي الكلمة؛ بل ينتقي أجود وأطيب الكلام فيرسله عذباً رقراقاً سلسلاً تستمتع به النفوس وتروق به الأفئدة.
ولا يختص استخدام اللفظ الحسن بالبالغ؛ بل المسلم مطالب بتربية أبنائه على اللفظ الكريم ، وتهذيب لسان أطفاله حتى تستقيم على القول الطيب . وخصوصاً في هذا الزمن الحرج يتحتم على المربي تلقين الابن القيم والضوابط الأساسية التي ينبغي أن يمتثلها في حياته فمما يعلم، أن الطفل يعيش في أحرج أطوار عمره، فهو يكافح من أجل الاعتماد على ذاته، ويتعلم ليكتشف بيئته الجديدة، وكيفية طرق الاتصال بالعالم من حوله، فهو في حاجة لمهارات متعددة تساعده على التعامل مع ما حوله بطريقة صحيحة. ومن ذلك يتعلم الألفاظ والكلمات ليعبر بها عن حاجاته ورغباته ومشاعره. ومع نموه العمري يزداد نمو قاموسه اللفظي وقدرته في كيفية استخدام الجمل والعبارات، فيعبر عن مشاعر الحب بعبارة حانية، وعن الغضب بعبارات قاسية جارحة.
وقبل أن يوجه المربي الطفل إلى حسن القول وتهذيب الكلام ينبغي أن تكون ألفاظ المربي ألفاظاً كريمة حسنة بعيدة عن فحش الكلام ورذائله، ولا يكتفي بالتلقين بل يجب أن يمارس ذلك عملياً في انتقاء العبارات والألفاظ التي يتلفظ بها خصوصاً أمام الطفل. فعندما يُخبر الابنُ أن هذه ألفاظ لا تليق ويجب أن لا يتلفظ بها مرة أخرى يعني ذلك أن لا ينطق بها المربي. وإن حدث وسمع لفظة لا تليق عليه مواجهة ذلك بالرفض فلا يكون هناك تسامح أو تجاوز، فالقيم والمثل لا تؤخذ بتذبذب وتردد؛ بل بحزم وامتثال. والطفل يتأثر بالسلوك أكثر فهو ينظر ويسمع ما حوله وأول ما ينظر إلى سلوك والديه فيحتذي حذوهم في القول والفعل، فلكي تجني أبنا صالحاً سوياً فليكن سلوكك قويماً، فبسلوكك تمهد له الطريق ليسلك الطريق القويم. فأنت ـ غالباً ـ مرآة لابنك فهو يعكس ما يراه فيك من سلوك. فالتربية بالمثال والقدوة تؤثر بدرجة عالية في الطفل لأنه لا يملك القدرة على إدراك المفاهيم وإنما لديه القدرة الفائقة في حفظ الكلمات التي يسمعها وتطبيق ما يراه من سلوكيات.
والطفل ـ أحياناً ـ يتعلم كلمة سيئة من أحد الأقارب أو الجيران أو أي مصدر كان ثم لا يلبث أن يردد هذه الكلمة بدون وعي لمعناها. وهنا يتطلب منا الموقف أن نكون رفيقين مع الطفل عند سماع هذه الكلمة وخصوصاً إذا كان الطفل صغيراً فيحسن أن نتجاوز هذا الموقف ولا نعيره اهتماماً لأننا عندما نصرخ في وجه ونقول له: هذا عيب. ونعاقبه على ذلك، فإننا من غير شعور نعمل على ترسيخ هذه العبارة ونثبتها في ذاكرته إذ يرى أن هذه الكلمة جذبت انتباه الوالدين لذلك سيستخدمها مرة أخرى لجذب الانتباه ولو بطريقة سلبية. ولكن لو شعرت أن ابنك أصبح يكرر هذه الكلمة بكثرة وبطريقة مزعجة عندها يجب أن تخبره أن هذه الكلمة بذيئة وعليه أن لا يقولها مرة أخرى. ويجب أن يكون إخبارك له بطريقة جادة يشعر أن هذه الكلمة مرفوضة. ومن الخطأ أننا نتعامل مع الخطأ الأولي كالخطأ المتكرر، والخطأ العفوي كالمقصود، فهذا ليس من العدل. إذ الطفل في أشد الحاجة إلى التعليم والتبيين، وتفكيك المعاني، وتبسيط المفاهيم مع الإعادة والتكرار حتى نستيقن أن الطفل قد استوعب الأمر. فالطفل ينسى ويغفل فالاستعجال في التغيير والتبديل أمر يتناقض مع طبيعته الطفولية.
وقد يتساءل الآباء من أين اكتسب ابني هذه الألفاظ؟ أولاً: يجب أن نعلم أن غلق جميع المنافذ عن الأبناء أمر متعذر وخصوصاً في هذا الزمن فالابن قد يكتسب ذلك من المدرسة أو الأقارب أو الجيران ، فقد يفترض أن الأبناء قد اكتسبوا هذه الألفاظ غير اللائقة منذ أمد بعيد ولكن للبعد عن أبنائنا أو بسبب عدم وجود المؤثرات التي تثير أبنائنا لإخراج ما لديهم من مخزون لفظي لم نكتشف ذلك، وليس السؤال من أين اكتسب هذه الألفاظ ولكن السؤال: كيف يتعامل ولدي مع الألفاظ البذيئة التي يسمعها؟ ما ردت الفعل التي يتخذها ابني تجاه هذه العبارات؟ كيف اجعل ابني يسمع هذه العبارات وتمر مر الكرام دون أن يتبناها؟
والمربي الحقيقي هو الذي يعطي القيم والمبادئ الكلية التي تكون معياراً لدى الطفل يقيس من خلالها الصحيح من الفاسد. لهذا اهتم دائماً أن يكون الطفل بذاته هو الذي يتخلى عن الألفاظ البذيئة ويخرجها من قاموس ألفاظه. لكي نعالج المشكلة ينبغي أن نلحظ الحالات التي يبدأ الطفل يسب ويشتم فيها، هل يسب إذا غضب؟ أم ذلك يستمر معه في حالات اللعب والمرح ؟ فهذه نقطة حرجة ومهمة. فإذا كان في جميع الحالات يقذف بعبارات الشتيمة فذلك يعني أن هذه صفة لازمة له وليست عرضاً يزول بزوال المؤثر. وهذه الحالة تتطلب جهداً ودراسة متأنية لبيئة الطفل ومراجعة دقيقة لألفاظ المربين. فاتجه أولاً إلى معرفة المصدر التي اكتسب منها الطفل هذه العبارات غير اللائقة. فالحل هو إزالة المصدر وتغيير الوضع. وإن كان الطفل لا يسب إلا في حالات الغضب والانفعال فهذا يعني أن الطفل يدرك أن هذه الألفاظ ألفاظ بذيئة ـ وإن كان لا يعرف معناها ومدلولها ـ إذ استخدامها في حالات الغضب يدل على أنه يريد بها الانتقام الطفولي والتخفيف عن آلمه الشعوري. وهنا يناقش بعدم استخدام هذه العبارات مرة أخرى.
ونجد بعض الأطفال لا يستخدم قاموس الشتم إلا في أماكن معينة، فتجده في المدرسة قد يسب ويشتم بخلاف ذلك عندما يكون في بيته، وذلك أنه يجد نوعاً من الحرية في المدرسة لغياب الرقيب على ألفاظه وكذلك قد يشعر بنوع من الزهو أمام زملاءه، وهذه إشكالية إذ أن القول الجميل المهذب ليس سلوكاً وعادة للطفل يتمثله في كل وقت ومكان. وهنا يتطلب مراجعة طريقة تغذية الطفل تربوياً. فنحن قد نسلك مع الطفل التوجيه مجرداً من غير ربطه بالله عز وجل وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، وهذا سلوك خاطئ في التربية، فعند غرس أهمية اللفظة الحسنة ينبغي أن يقارن ذلك محبة الله عز وجل لهذا السلوك الحسن وأنه قربة لله تعالى، وعليه أن يكون مهذباً في قوله في كل وقت لأنه يتعبد بذلك.
ومن الأخطاء الشنيعة لدى بعض الآباء هو عدم تخصيص بعض الوقت من جدوله اليومي لتربية أبنائه ومحاولة اكتشاف ما لديهم من قدرات وطاقات ومعرفة ما يتميزونه من مواهب ودراسة لسلوكهم التربوي ومحاولة لتقويم وتصحيح ما لديهم من نقص. إن الابن في شوق ولهفة ليمكث مع أبيه ويتخذه صديقاً يبوح له ما يجول في خاطره ويحدثه عما يرى ويسمع، إنه في حاجة لمن يضيء له الطريق ويحدثه عن هذا العالم وما يحويه من خير وشر. لا يستطيع الابن أن يحلق في سماء المعرفة ما لم يجد هناك من يعلمه كيف يطير ويحتضنه عندما يسقط. والأب الذي لا يجد وقتاً كافياً ليمكث فيه مع أبنائه فترة كافية عليه أن لا يتفاجأ عندما يجد أن أبنائه سلكوا مسالك لا يتمناها ولا يرغبها. ولذلك عندما تسمع كلمات وقحة من ابنك وأخذت تصرخ عليه وتهدده بالعقاب فإن ذلك لن يجدي ما لم تتجه إلى نفسك وتنظر مدى علاقتك بأبنائك.
الطفل لا يحتاج والديه فقط للحاجات الضرورية كالأكل والشرب والكساء والمأوى؛ بل الطفل في حاجة ماسة للقضايا الإنسانية كإظهار العطف والمحبة والحنان وفي حاجة أشد لتعليمه وتربيته على فضائل الأمور ومحاسن الأخلاق والعادات. وهذه القضايا الإنسانية ليست فقط من خصوصيات الأم؛ بل هي قضية مشتركة بين الأم والأب فهما المسؤولان عن تنشئته وتربيته تربية شاملة. ومن الخطأ إسناد هذه القضايا إلى الأم وحدها. فالأم بطبيعتها وتكوينها العاطفي والوظيفي لا تستطيع أن تؤدي الرسالة التربوية كاملة. فالأم قد تكون غير قادرة على غرس مبادئ الرجولة والشجاعة والقدرة على مواجهة المشاكل بصورة جيدة كما يقوم بذلك الرجل. فمشاركة الوالدين في التربية من أفضل الوسائل في معالجة السلوك التربوي الخاطئ لدى الأبناء.